ياسين بودهان-الجزائر

بعد طول انتظار، حل أخيرا موسم العطلة المدرسية الشتوية، وآن للشيخ محند أمقران أن يجمع أفراد أسرته بعد أن تحرر أبناؤه من قيود الدراسة، ليشد الرحال إلى القرية التي احتضنت ذكريات من طفولته تحت ظلال أشجار الزيتون الوارفة في قرية بني معوش شرقي الجزائر.

بني معوش قرية باتت تنام على أطلال المنازل القديمة والمهجورة، ولا شيء فيها يرمز للحياة الآن، فسكانها الذين كانوا يغمرونها بالحياة غادروها نحو المدينة بحثا عن سبل حياة أفضل، واليوم لا شيء يجذب من غادرها سوى أشجار الزيتون المتناثرة ما بين حقولها وهضابها.

وحدها أشجار الزيتون تتشبث بالحياة في هذه القرية المنسية ويصبح عنوانا لها، ووحدها تجذب محند أمقران وأفراد عائلته مرة كل عام لقطف ما جادت به من حبات الزيتون المباركة.

جاءت رحلة محند أمقران الشتوية متأخرة، لأن موسم جني الزيتون بقريته الرابضة في أعالي جبال قرى بني معوش بولاية بجاية، وفي غيرها من القرى بمحافظات الجزائر شرقا وغربا ينطلق مع نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني ويستمر على مدار ثلاثة أشهر.

زراعة الزيتون وجنيه من أبرز مظاهر ارتباط سكان قرية بني معوش بالجزائر (الجزيرة)

انطلاق الموسم
وجرى العرف ولا يزال في بعض قرى الجزائر، وخاصة في منطقة القبائل أو الأمازيغ، أن يعلن عن انطلاق موسم جني الزيتون من طرف أعيان القرية، إذ يبادر القرويون بشراء أغنام وذبحها، على أن تطبخ النسوة الكسكسي وهو طبق تقليدي مشهور بالجزائر، ويلتئم سكان القرية على تناول الطعام المعد شكرا منهم لله على نعمه.

وبعد إعلان بداية الموسم، يتجه القرويون إلى حقولهم، حيث يجسدون صورا متعددة للتكافل والتلاحم الاجتماعي تحت عنوان “ثيمشراط” أو “تويزة”، وهي عادة توارثها الجزائريون أبا عن جد، إذ يتعاون أفراد الأسرة الواحدة أو كل أفراد القرية على جني الزيتون، وهناك تدعو الأسر المحدودة العدد أفراد أسرة أخرى إلى مساعدتها لأن جني الزيتون أمر يتطلب أيادي عاملة كثيرة العدد.

ويقول محند أمقران للجزيرة نت إن الأسر التي لا تمتلك أشجار الزيتون يكون لها أيضا نصيب من الغلّة، إذ تبادر تلك الأسر إلى مد يد العون للأسر التي تمتلك عددا كبيرا من الأشجار، وبعد عصر الزيتون تمنح لها حصة من الزيت، وهي صورة من صور التكافل الاجتماعي التي يحرص القرويون على التمسك بها وإحيائها.

عادات متوارثة
بعد عملية الجني، تكون وجهة الزيتون مباشرة نحو المعاصر، سواء التقليدية منها أو الحديثة، وبعضهم يفضل تركه في البيت لمدة طويلة، حيث يوضع الزيتون في سقف خشبي يكون عرضة للمطر وللثلوج اعتقاد من القرويين أن الغلّة تزيد كلما زادت فترة تعريضه لماء المطر والثلج.

العادات المتميزة للجزائريين مع الزيتون لا تقتصر فقط على عملية الجني، فبعد عصره تستقبل النسوة الغلّة بالزغاريد، ويحضرن في بعض المناطق قدرا كبيرة مصنوعة من الطين لوضع الزيت فيها، وفي مناطق أخرى يوضع الزيت في قوارير مختلفة الأحجام.

للنساء دور بارز في موسم جني الزيتون في القرى المعروفة بهذه الزراعة بالجزائر(الجزيرة)

وبعد الحصول على الزيت، تحرص النسوة على إعداد أكلات تقليدية تكون مادة الزيت فيها هي الأساس، ومن أشهر الأكلات “البغرير” بالعربية أو “ثيغريفين” بالأمازيغية، وهي أكلة مصنوعة من الدقيق تغمس في الزيت قبل أكلها، إلى جانب أكلات أخرى مثل “البركوكس” و”الإسفنج” و”خبز الشعير” و”المسمن” وغيرها.

ورغم أن زراعة الزيتون بالجزائر في السابق كانت حكرا على مناطق محددة كمحافظات منطقة القبائل، فإن الحكومة بذلت في السنوات الأخيرة جهودا لتوسيع هذا النشاط في باقي المحافظات.

تطور الإنتاج
وتشير إحصائيات وزارة الفلاحة إلى ارتفاع المساحة المغروسة بالزيتون من 150 ألف هكتار عام 1999 إلى 450 ألف هكتار العام الماضي، ويناهز عدد أشجار الزيتون ثلاثين مليونا بإنتاج بلغ في العام 2016 قرابة 300 ألف لتر من الزيت.

بيد أن هذه الجهود لم تدفع بهذا النشاط للوصول إلى مرحلة التصدير، كما لم تمنع من ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية، إذ بلغت هذا العام ألف دينار جزائري (8.66 دولارات) للتر الواحد، بعدما كان السعر لا يتجاوز قبل خمس سنوات أربعة دولارات ونصف الدولار.

ويشير الخبير الفلاحي عيسى عموري إلى أن “شعبة الزيتون في الجزائر لا تزال رهينة لتحديث آليات الإنتاج، ورهينة للطقوس الاجتماعية التي تجعل من هذا النشاط مصدر دخل للأسرة فقط، وليس رافدا لاقتصاد الدولة”.

وسائل تقليدية
وأوضح عموري للجزيرة نت أن “غالبية الفلاحين يمارسون هذه الزراعة بوسائل وممارسات تقليدية، ولا يجرون عملية الصيانة الدورية لمساحاتهم المزروعة، ولا علاقة لهم بالأشجار إلا في مرحلة جني الزيتون، ما يؤثر في تطوير الإنتاج وتحسين نوعيته”.

وتوقع الخبير الفلاحي تراجع كمية إنتاج الجزائر من زيت الزيتون في الموسم الحالي بسبب موجة الجفاف التي ضربت البلاد العام الماضي، إلى جانب تأثير الحرائق التي التهمت العديد من المساحات الصيف الماضي، وخاصة في محافظات غربي البلاد، ما سيؤدي بشكل مباشر إلى ارتفاع أكبر في الأسعار.

المصدر : الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *